كثير هذا الوجع، اكثر مما لعمر واحد أن يحتمله، أن تولد في بداية السبعينيات يعني ذلك أنك كبرت في الحرب الأهلية، شهدت إجتياح بيروت من الإسرائيليين، عرفت أن أهلك وشعبك غارقون في الدم والتناحر والإنقسام، شهدت المتحالفون في الخندق الواحد أراقوا دم بعضهم أكثر مما فعل عدوهم، تعلمت أن الكهرباء والماء والطبابة والمدرسة والطريق الخالية من الحفر هي مجرد كماليات لك، وأن وجه والدك الذي يعود من عمله كل يوم محفور بألف تعب وألف خوف، وأن حزن عيون والدتك ليس رومنسيا كما في قصص الفرنسيين، بل هو حزن الذل والشقاء اليومي من أجل بعض الخبز و الأدام لفمك.
أن يختزن عمر واحد كل هذا، دون حتى أمل كاذب أو مجرد وهم أن الغد قد يكون أفضل، أن يحكمك من قتلك ويقتلك من حاربت لأجله، أن يصبح الفاسد والمرتشي والسارق في صدر الدار، ويرمى الصادق والصديق بنعت الهبل وقلة الحيلة، أن تترك كل ما لك وانت على مشارف الخمسين أملا بموت أقل ذلا، كل هذا كثير لعمر واحد.
“أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله.” غسان كنفاني