يولد المرء بفطرة سليمة خالية من الشوائب، ومع السنين يبدأ ببلورة شخصيته بفعل عوامل متعددة منها الأسرة التي ينشأ معها والمجتمع الذي يعيش فيه، مدرسته وأصدقائه، وأي خلل في هذه العملية يؤدي لاحقًا إلى شذوذ الفرد عن فطرته بطرق مختلفة، وأبرزها إرتكابه للجرائم التي تختلف بين جرائم إقتصادية، سياسية، ضد الأفراد والملكيات العامة والخاصة، وهذا ما يحول المجتمعات الآمنة إلى مجتمعات غير مستقرة تمنع أي تطوراً أو إزدهاراً. بالإضافة إلى عوامل أخرى كالفقر الذي يدفع الفرد لكسب الأموال بطريقة غير مشروعة، وتدني المستوى الثقافي الذي يجعل الإنسان جاهلًا بالأنظمة وبعواقب الجريمة فيقدم عليها ويكررها نتيجة ذلك الجهل. تقع مسؤولية حماية المجتمع من الجريمة على عاتق العديد من الجهات، أولها الأسرة كونها بيئة الإنسان الأولى التي يكتسب منها عاداته وتقاليده، لذا من واجبها تربية أفرادها على نبذ الجريمة، تساندها في ذلك مؤسسات ومكاتب الخدمات الإجتماعية الموكل إليها حمايتها وإرشادها وعلاج مشاكلها بشكل جذري. وكذلك المؤسسات التعليمية التي ينخرط فيها الفرد، فهي مسؤولة عن تثقيفه وتعليمه أسس المتجمع السليم، ومدى خطورة إرتكاب الجرائم. ولعل من أهم واجبات الأجهزة الأمنية والقضائية هي منع الجريمة واكتشاف وقوعها، والقبض على مرتكبيها، وتطبيق العقوبة العادلة بحقهم، وتخصيص برامج إعادة تأهيل في السجون على أيدي مختصين بعلم النفس والإجتماع ورجال دين وشخصيات مؤثرة والتأكد من أن السجين مهيأ للدخول من جديد للمجتمع. هناك أيضًا دور هام للإعلام في توجيه الرأي العام وتوعيته والتنبيه إلى مخاطر الجريمة، و تجنب إثارة النعرات الطائفية والمناطقية التي تؤدي حتمًا إلى إختلال الأمن. خزان المقاومة، مدينة الشمس، عروس الوطن، تسميات كثيرة لمنطقة البقاع، تحديدًا بعلبك الهرمل، لا تتعدى كونها مجرد توصيفات لن تغطي حقيقة مرة وواقع مخيف، بعلبك صارت مدينة الموت، وأعداد ضحايا الثأر والجهل والعصبية في إزدياد. والجهات الموكل إليها محاربة الجريمة تقف مكتوفة الأيدي عاجزة عن ضبط الوضع وحماية المتضررين. أكثر من اسبوع على إختطاف ابن بلدة القرعون رجل الأعمال عدنان دباجة، بعد إعتراض سيارته على طريق عام كفريا في البقاع الغربي، وعائلته تستمر في مناشدة قوى الأمن والجهات الحزبية لإعادته، والرد كان “نعلم الخاطفين ومكانهم لكننا عاجزون عن تحريره” بهذه البساطة بررت قوى الأمن تقصيرها في حماية دباجة وآخرون قد يتعرضون للخطف في أي لحظة طلبًا للفدية، تأتي هذه الحادثة بعد مرور أكثر من شهر على التوتر الذي شهدته بعلبك بعد اشتباك بين آل شمص وآل جعفر وإستمر لأيام عديدة، قطع فيها أفراد العشيرتين الطرقات واطلقوا الرصاص والقذائف في وضح النهار دون أن يقيموا أي حساب للدولة التي انسحبت من المعركة تاركة للمنطق العشائري إصدار الأحكام وتطبيقها. جرائم عديدة تحصل في تلك المنطقة المحرومة والدولة تكافح الأمر بإصطياد الصغار وترك الرؤوس الكبيرة، وإصدار أحكام جائرة ومجحفة تجعل من عودة المساجين للحياة الطبيعية أمرًا شبه مستحيل، وتتبجح بالقول بأنها بهذه الطريقة تحمي المنطقة من مخاطر عديدة، وهي بذلك تتنصل من مسؤوليتها الأساسية بمحاربة أسباب الجريمة، وتخفي تورطها بإزدياد معدلاتها بسبب سياساتها الخاطئة بحق المنطقة بدءًا من مستوى التعليم وصولًا إلى الإجحاف في السجون. عانى البقاع لسنوات طويلة من الحرمان والخذلان من جميع الأحزاب والجهات التي حكمته، والإنماء اللامتوزان الذي أدى إلى غياب فرص العمل وتفشي البطالة، ما أنتج ظاهرة السلب والسرقة، ومع تهاون الدولة في تأمين الحماية للمتضررين، لجأ هؤلاء للأمن الذاتي وإقتناء الأسلحة في البيوت للدفاع عن أنفسهم، من هنا برزت أزمة جديدة وهي السلاح المتفلت الذي راح ضحيته المئات حتى اليوم، وعداوة بين العائلات أمتدت لسنوات طويلة. من جهة أخرى، لم تعمل أي جهة على تذليل ثقافة القوة الوهمية وهيمنة فئة على أخرى، بل عززتها من خلال إعطاءها مسميات وشعارات زائفة جعلت العشائر تتحارب للوصول إليها، فانغمس الشباب بهذه الآفة وصار إستعراض القوة والخشونة هو سمة الرجولة المفترضة بهذه المنطقة والخروج عن هذا العرف هو الضعف والوهن. كما ساهمت طبيعة الأراضي والمناخ الجاف في البقاع إلى حصر الزراعة بمنتوجات محدودة وتقصير الدولة عن تمويل زراعات بديلة أو التعويض عن المحاصيل التي تتضرر أحيانًا بفعل الطقس، إلى توجه المزارعين والفلاحين نحو الحشيش لسهولة زراعته ووجود سوق جاهز للإستهلاك الدائم، مما أنتج أزمة تعاطي وترويج لم تعد قابلة للتقويض، وتحويل جيل من الشباب إلى جيل مخدر بعيد عن الواقعية والإنتاجية، وأمعنت في تضليله من خلال تقليل حصته من المؤسسات التعليمية لجعله فريسة سهلة للجهل وغياب الثقافة. ولا يمكن في هذا السياق نسيان الدور الأساسي الخطير الذي تؤديه مؤسسات الإعلام اللبناني التي تستغل أي جريمة تقع في البقاع لجذب الأضواء وتحقيق أعلى نسبة مشاهدات من خلال تضخيم الحادثة واستفزاز الأطراف وتحوير الحقائق دون تحميل أي مسؤولية للدولة أو الإشارة بوضوح لأسباب إنتشار الجريمة، وبدورها تختفي عند مناشدات أهل المنطقة واستغاثتهم من أجل الحصول على حقوقهم وحديثهم عن معاناتهم. إن مبدأ الثواب والعقاب يصلح فقط عند دثر محفزات الجريمة وتحقيق العدالة والمساواة بين الحقوق والواجبات لدى الأفراد، أما مع غياب أي محاولة لإصلاح جذري أو بحث في خلفيات ودوافع وأسباب المجرم، فهو إجحاف في الإنسانية وتجني وتقصير تمارسه الدولة متعمدة، وتتحمل مسؤوليته دون جدال، وهذا هو حال البقاع الذي عرف عنه الكثير من الكرم والشهامة والحمية، وأهله الذين يعانون من التنميط والتهميش، ويتحملون خطيئة الدولة وظلمها.
بقلم زينب شميس