في الحرب تعلم أنك ميت، وأن كل ثانية تمر وأنت حي هي معجزة إلهية. في الحرب، كل لقاءٍ هو إحتمال لقاءٍ أخير، وداعٌ عند كل مفترق، ولأننا من بلاد عربيةٍ، فيها الإرهاب والإنتداب و الإحتلال الصهيوني، فقد عرفنا كل أنواع الموت بكل أصناف الحروب، ومن لم يفقد منا أخاه فقد رأى في كل مكانٍ شاهدًا على ذكراه، مقبرة جماعية أو تمثالًا يخلد بطلًا قاتل من أجلنا، أو صورة معلقة على حائطٍ في منزل مهجور، لعائلةٍ مات جميع أفرادها وظلت هي إرثهم الأخير.
اليوم، كان الموت مختلفًا، كان القاتل واحد منا، وربما عاش معنا ذات يوم ويلات حربٍ أخرى، لكنه غامر بأراوحنا على حساب توظيف هنا، ومكسب مادي هناك، فصار الفساد، عدونا الأزلي قاتلًا، وحصد مئات الأرواح ممن كان يحاربون من أجل غدٍ مشرقٍ، من أجل بصيص أملٍ بأن قادم الأيام سيكون أحلى.
اليوم، عند السادسة وسبع دقائق، تحولت حياتنا الروتينية إلى جحيم، ودوى صوت الموت في أرجاء المدينة، فلفظت العاصمة على أكتافنا أنفاسها الأخيرة. اليوم، كانت مشاهد المشافي المكتظة بالناس أشبه بحلقة تلفزيونية مصورة، تبكي وأنت تنتظر أن يوقف المخرج التصوير، ويطلب من الموتى أن يستيقظوا ويمسحوا عن وجوههم الدم والحزن، لكن المخرج تأخر، وظل الموتى ممددين على الأسرة و في الردهات، ينتظرون أن يعثرَ عليهم أحبتهم الهائمون في الشوارع، ليقيموا لهم مآتم تليق بما عاشوه من خوف في لحظاتهم الأخيرة.
اليوم، تساوينا أمام الموت مرة أخرى، ومن تأجل موته سيظل ممتنًا إلى الأبد، لنزهة خارج المدينة، لجدار سميك، للمسافات، لصديق كان على يقظة فأمسك بيده وركضا معًا قبل الفاجعة، وسيظل حاقدًا إلى الأبد على من قتلوا بيروت، مدينتنا الجميلة، على من قتلوا أبناء بيروت و من لجأوا إليها، من عمل على إعمارها، من قتل الأطفال والنساء والرجال، على من حول عاصمة تضج بالحب إلى صحراء قاحلة، تسير في شوارعها وأنت تفكر، كم كرسيًا في هذا المنزل سيظل فارغًا غدًا؟
بقلم زينب شميس