يقع الكثيرون منا في خطأ التهميش او التسخيف للخطاب المتطرف وقدرته، ويعتبر البعض ان المجموعات المتطرفة هي مجرد مرحلة مارقة، غير ان التعمق في محتوى الخطاب لهذه المجموعات ومنظومتها الفكرية والعقائدية، وما نتج عنها من ادبيات كثيرة ومتنوعة، يضعنا أمام الكثير من علامات الاستفهام، حيث ان مستوى الحراك والتنظيم والاستقطاب لدى معظم الحركات المتطرفة، يشكل ظاهرة قوية ومحكمة تتخطى المراحل الراهنة او الظروف الموضوعية التي قد يكون لها تأثير إيجابي او سلبي عليها.
ولا بد من الوقوف بجدية اكبر أمام القدرة المذهلة لدى المتطرفين على التأثير في الشباب، ومن الجلي جدا وبشكل كامل الوضوح، ان القوام الأساسي لهذه الجماعات والحركات المتطرفة يقوم على الشباب، حتى ان القسم الكبير من القيادات المتوسطة لدى معظمها – اذا استثنينا القاعدة – لا تتعدى أعمارهم الثلاثينات، فمن اين تأتي هذه القدرة الكبيرة لديهم للتأثير على الشباب العربي خاصة والمسلم بشكل عام، وعلى هذا النطاق الواسع والكبير جغرافيا وعقائديا والذي قد يكون الأكثر قدرة وانتشارا في عصرنا الحديث.
وإذا أخذنا عالمنا العربي كنقطة انطلاق لما يشكله من خزان كبير وأساسي للمتطرفين ، لا بد لك أن ترصد بداية الأسباب العامة التي سمحت للأفكار الراديكالية المتطرفة أن تغزو مجتمعاتنا وتتحول الى عقيدة راسخة في بعضها، وتشكل بيئة حقيقية حامية وحاضنة لهذه الأفكار ومساهمة بمدها بما تحتاجه من عدة وعديد.
قد يكون السبب الأكثر وضوحا والمؤثر الأساسي في تغلغل التطرف الى مجتمعاتنا العربية، هو طبيعة الأنظمة الحاكمة والتي وإن اختلفت في الشكل والمنظومة المتبعة للحكم إلا أنها تتشابه في مضمونها وطرق حكمها، فبالإضافة الى غياب الديمقراطية والحرية وتداول السلطات وهو الميزة الأكثر ظهورا في جميعها، فقد تفشى فيها الفساد والمحسوبيات التي بدورها تحصر وتقلص السلطة المالية والسياسية في يد طبقة صغيرة، هي في الغالب إما من الحكام او من المحسوبين عليهم، وقد نتج عن ذلك فروقات طبقية كبيرة وخطيرة فصلت بين شقي المجتمع، مما شكل احزمة بؤس غالبا ما تنتشر في ضواحي المدن الرئيسية كما في الأرياف والأطراف، وقد استوعبت الحركات المتطرفة هذا الخلل وعملت على الاستفادة منه، ومن خلال الاطلاع مثلا لا حصرا على كتاب ” إدارة التوحش” الذي يعتبر احد المؤلفات المعتمدة لدى هذه المجموعات، سنجد الكثير من الفقرات التي تشدد على العمل في الضواحي الفقيرة والأطراف المعزولة عن قلب الدولة، بل أن الكتاب يدعوا الى العمل على زيادة التوحش في هذه المناطق وعزلها اكثر عن المركز وتقديماته ، مما يتيح لهذه التنظيمات اجتذابهم الى حكم بديل يتمثل بالطروحات المتطرفة والتي توائم طبيعة الحرمان والظلم الذي يسيطر عليهم.
وغني عن الذكر ان الشباب في أي مجتمع هم الفئة الأكثر تعرضا وقبولا لما هو جديد مهما كانت غرابته، وفي المجتمعات الأقل تثقيفا وتعليما، والتي تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية، يكون الشباب فيها أكثر نزوعا الى التمرد والثورة، وبغياب أي طروحات او حلول تقدمها الأحزاب والحركات الاجتماعية لملء هذا الفراغ، خاصة ان مجتمعنا العربي أساسا يعاني من غياب مزمن للعمل الحزبي والسياسي، ينجر الشباب بشكل طبيعي يمكن ادراكه الى أي طرح يشكل لهم بارقة امل او مشروع بديل، وفي أحيان كثيرة لمجرد التعبير عن النفس والخروج من حالة التهميش المفروضة عليهم، او بكل بساطة من أجل الانتقام من مَن كان سببا في الأوضاع المتردية التي يعانون منها والمتمثل بالنظام الحاكم.
كيف استفادت الحركات المتطرفة من ذلك؟ للجواب على هذا السؤال يجب أولا الاطلالة على كيفية عمل وتفكير هذه الحركات، والمنطلقات الدينية التي بنت عليها عقيدتها، وأعود إلى كتاب أخر لـ عبد القادر بن عبد العزيز وهو “رسالة العمدة في إعداد العدة” وهو واحد من الكتب التي تعتبر من ادبيات الكثير من الحركات المتطرفة، حيث ترتكز الدعوة فيها إلى تكفير كل الأنظمة وقوانينها وضرورة محاربتها، وهنا أقتبس من الكتاب ” إن القوانين الطاغوتية هي كفر أكبر مُخرج لمن وضعها ولمن حكم بها ولمن تحاكم إليها من ملة الإسلام، وهي من أنكر المنكرات، وأضعف الايمان وهو الانكار بالقلب” إلى ان يكمل بعد ذلك “وأما الانكار باليد لهذه القوانين الكافرة ولمن يعمل بها ويحميها فهو الموضوع الأساسي لهذه الرسالة وهو الدرب العسكري”، وسندون هذه الفتاوى التي يكفرون فيها الأنظمة الى مجموعة من الآيات والاحاديث يفسرونها على طريقتهم بما يتناسب ومشروعهم، ويحتجون بمنظومة متشعبة من الكٌتاب والمفسرين تبدأ من ابن تيمية إلى سيد قطب مرورا بكثيرين غيرهم ممن كتبوا وألفوا في تكفير الامة وغير ذلك، بحيث يخيل للقارئ البسيط والغير متخصص في التاريخ الإسلامي وهم الأغلبية من الناس، أن كل ما يقولونه ويكتبونه مستند الى الدين الإسلامي وله مراجعه وأصوله، مما يعطيهم مصداقية كاذبة لكنها فعالة، وكما هو معلوم فإن المجتمعات الفقيرة والمهمشة ونتيجة سوء التعليم والوعي الثقافي، تنغمس بشكل أكبر بالتقاليد والموروثات الشعبية الدينية بغض النظر عن الحقيقة والمعرفة التي تحتويها هذه الموروثات ومقدار مصداقيتها وارتباطها فعليا بالدين الإسلامي او لا، مما يجعل اللعب عليها أو الاستفادة منها لاستقطاب الشباب والعمل والانخراط داخل الحركات والمجموعات المتطرفة أكثر سهولة.
وقد ادركت الجماعات والحركات المتطرفة مبكرا أهمية التواصل مع الجماهير، وقد استخدمت الوسائل المتاحة والحديثة بشكل أكثر فعالية وانتشارا، وانخرطت في العمل الالكتروني بشكل فعال وقوي ، وعرفت هذه الجماعات مبكرا أهمية الانترنت كوسيلة فعالة للتواصل مع الشباب، وقد ساعدتها الثورة الكبيرة في مجال التواصل الاجتماعي في العقود الأخيرة، خاصة ان المستخدمين الأكثر كثافة لهذه الوسائل هم الأجيال الناشئة، في مقابل ذلك كانت الأنظمة العربية التي اكتسحها الفساد والتخلف الإداري والبيروقراطية عاجزة عن فهم ومراقبة واحتواء هذا الانتشار الكبير، ناهيك عن لعب دور فعال في اعلام مضاد او توعوي حيث ما زالت الى اليوم في معظمها غير قادرة تقنيا او إداريا عن القيام باي دور فعال على صعيد وسائل التواصل والاعلام البديل، والذي يحتاج أساسا بالإضافة الى التركيبة الإدارية المناسبة التي تستطيع مجاراة التطور التكنولوجي، إلى محتوى وطرح بديل يكون مقنعا للشباب وجاذبا لهم، وهذا قد يصل الى مستوى الاستحالة في ظل هذه الأنظمة الحاكمة وطريقة ادارتها وتفكيرها.
إن سلطوية هذه الأنظمة وفسادها وغياب الامن الاجتماعي والرعاية، مضافا اليها التخلف في القطاع التعليمي وغياب الجو الثقافي والحركة الفكرية المنتجة، مع الفقر والتفاوت الاجتماعي وغياب العمل الحزبي الحقيقي والديمقراطي، وفي ظل مجتمعات شابة يهمشُ دورهم ويتم إقصاؤهم، من الطبيعي جدا انتشار كافة الأفكار المتطرفة، ناهيك عن تلك التي تستخدم التراث الشعبي والاجتماعي مضافا لهما قوة السطوة الدينية التي ما زالت متجذرة في مجتمعاتنا، لا يستغرب بعد كل ذلك ان يكون هؤلاء الشباب وقودا جاهزا يستنزفه التخلف والتطرف .