الأحد , أبريل 2 2023

إبليس في الجنّة!

  

     أعترف ، وقبل الحديث عن أي شيء ، أنني أقع أحياناً في شرك العنوان ” الجذّاب ” الذي تحمله بعض الكتب ، فيدفعني الفضول كأي قارىء إلى الإطّلاع على مضمونه ، لأكتشف فيما بعد ، أن العنوان أكبر من المضمون ، أو أن المضمون لا يمتّ بصلة إلى العنوان ، لا من قريب ولا من بعيد ، أو أن المضمون كان ضحية للعنوان الذي لا يرقى إلى مستواه ، فلا يشدّ غلاف الكتاب القارىء إليه .

   لكن ، مع الرواية التي أنا بصدد الحديث عنها ، فقد تغيّر شيء من عناصر المعادلة ، وتداخلت بعض مقاييسها ، وكأنّ الحيرة قد استحالت أنيساً يلتزم الصمت ، وهو يحدّق في وجهي ، ويرسم في الهواء دوائر دخان اللفافات التي يمجّها تقطيعاً للوقت .

   ” إبليس في الجنّة ” ، هو عنوان العمل الروائي الذي انضم إلى مقتنيات المكتبة العربية ، بعد صدوره عن دار الفارابي في بيروت ، وقبل ذلك ، وهو الأهم ، بعد أن وضع محمود عثمان لمساته الأخيرة ، على هذا العمل الذي استطاع من خلاله ، أن يدفع القارىء للسير بخطىً حذرة ، فوق حبل يصل بين مرتفعين شاهقين ، يفصل بينهما ما يجعل القلب يشهد أحوالاً  متفاوتة ، حدّ التناقض بين الخفق المتسارع ، والإختلاج المتتابع ، وهو يشارك العقل والفكر معاً في التعامل ، لا بل التفاعل مع ما فاضت به قريحة المؤلف ، وما جادت به مخيّلته .

   فإن حسَمْتَ أمركَ ، وقررتَ المضي قُدُماً في التّنقّل على هذا الحبل الغليظ ، الذي نُصِبَ بين دفّتَي الكتاب ، فمن الواجب ، لا ، بل من الضروري أن تُتْقِنَ فنّ التوازن ، مهما بلغت سرعة تنقّلك حدّها الأدنى ، ومهما اشتملت سيرتك الذاتية على شهادات خبرة في هذا المضمار .

   فمع محمود عثمان ، في هذا النتاج الأدبي ، أنتَ أسير أكثر من سر من أسرار مهنة الكتابة ، التي يُمسك المؤلّف بنواصيها دون أي إغفال لبصمات أسلوبه الخاص فيما يقدّمه لنا ، مستخدماً ومبيّناً ما أمكنه من مفاتن اللغة العربية ، ومحاسنها ، وبريق جمالياتها .

   ومع محمود عثمان أيضاً ، أنتَ تتعامل مع الأمور ، ومنذ اللحظة الأولى ، انطلاقاً من انقلابها رأساً على عقب ، وتبدّل حالها ماية وثمانين درجة ، وسلوكها الإتجاه المعاكس دوماً ، وكل هذا في فسحة من الخيال المشرّع الأبواب ، على آفاق تتقاطع مع مسيرة الحياة منذ فجر التاريخ ، في محطات تتشابك فيها الحقائق بالنبؤات ، بالفلسفات ، بالتأويلات المتفاوتة ، إضافةً إلى التساؤلات التي تساور النفس البشرية ، في ما يتعلّق بالعديد من الوساوس والهواجس ، التي العديد من المفكّرين والمتعمّقين في البحث عن إجابات شافية لها ، عبر سِني حياتهم التي عاشوها .

   وما ميّز هذه الرواية ، هو عناوين فصولها ، التي يصل عددها إلى تسعة وعشرين ، قسم منها يتّسم بغرابة التسمية مثال : ” القرد الأصلع ” ،   ” الحمار الضال ” ، وقسم آخر يجعلك تتهيأ سلفاً لمعرفة الطرف الثاني في الحوار الذي يجري بينه وبين إبليس مثال: “مع أبي العلاء”، مع ابن المقفع “. لكن القارىء سيجد نفسه دوماً خلال مطالعته لكل فصل ، أنه أمام تتابع مترابط في مراحل رسم صورة المشهد المُتَخيّل ، والمتكامل مع تفاصيل حوارات تمزج بين ما علق بالذاكرة من قراءة سابقة لكتب ومراجع شكّلت نواة ثقافة عامة ، تسمح له بفهم ما خطّه قلم محمود عثمان ، عبر هذه الرحلة ذات الطابع الجديد .

   ” إبليس في الجنّة ” ، عمل أدبي قد يضع القارىء في مواجهة أكثر من علامة استفهام ، ويرسم على وجهه أكثر من علامة تعجّب ، لكنه ، وبعد أن يستعيد تسلسل أنفاسه الطبيعي تدريجياً ، وتعود تقاسيم مُحيّاه إلى سيرتها الطبيعية ، سيعترف ، ولو أمام مرآته فقط ، أن محمود عثمان قد ميّز نفسه في دنيا الأعمال الروائية ، ب ” جدارية ” تشدّ انتباهك إليها ، وتدعوك للتّبصّر في نقوشها ، وتقلب حال مرور الكرام بها ، إلى تأمّل لأدق تفصيل غيّر معالم امتدادها .

  

شاهد أيضاً

يا حُكّام لبنان: أما آن موعد الحل؟

الليرة “المسحوقة” تُعَمِّق التدهور المعيشي… ولبنان إلى المرتبة الأولى عالميًّا بالانهيار!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *